هل نحن متآمرون على لبنان؟
مقالة الوزير السابق خليل الهراوي.
هل نحن متآمرون على لبنان ؟
عندما بادر مثلث الرحمات البطريرك الحويك سنة ١٩٢٠ مع وفد يمثّل سائر المرجعيات الروحية الى مطالبة مؤتمر فرساي بضمّ الأقضية الأربعة والمدن الساحلية الى جبل لبنان، كان بذلك ينقل جبل لبنان من موطن الأقليات المضطهدة الى “لبنان الكبير”، الوطن الذي يعيش فيه المواطنون بإختلاف مذاهبهم فيؤسسون دولةً يتشاركون في ادارتها وقراراتها، تؤمن لهم الأمن والإزدهار.
كان إنجاح المبادرة هذه رهاناً وتحدياً لمن أراد للبنان ان يكون كبيراً.
حينذاك، كان تجري في فلسطين، بمبادرة من حركة صهيونية عالمية، مسيرة سرية معاكسة لروحية “لبنان الكبير”، تهدف الى فصل المواطنين اليهود عن شركائهم في الوطن، بغية انشاء دولة خاصة بهم على جزء من أرض فلسطين، فكان لهم وعد بلفور.
سنة ١٩٤٣، تكللت مسيرة “لبنان الكبير” بالنجاح في معركة الاستقلال حيث توحّد اللبنانيون بتعدديتهم حول تحديد خياراتهم الوطنية، فجعلوا من لبنان نموذجاً للعالم ورسالةً له.
إستشعر الصهاينة خطر النموذج اللبناني على وعد بلفور، فسارعوا سنة ١٩٤٨ الى اعلان دولة اسرائيل بعدما طردوا الفلسطينين، مسيحيين ومسلمين، من أرضهم وبيوتهم.
أصبح في المنطقة نموذجان : نموذج لبنان الدولة الجامعة لأبنائها، ونموذج اسرائيل الدولة العنصرية.
سنواتٌ من الاستقرار مرّت ابرزت ان لبنان بفضل حضارته وانفتاحه على العالم وبفضل قدرات شعبه ورجال اعماله، قادر ان يساهم مساهمة فعّالة في نهضة وانماء الدول العربية الناشئة وان يكون صلة الوصل بينها وبين العالم فسُمّي بـ”سويسرا الشرق”.
سقطت انظمة وتدمرت فيها جيوش، وحده “لبنان الرسالة والدور” ظلّ قادراً على مقارعة تبرير اقامة دولة صهيونية مغتصبة وعلى اعاقة الدور الذي كانت تطمح اليه في المنطقة والذي اعتبرته اساساً لديمومتها.
مقاومة لبنان هذه، لم تكن ليتمكّن منها جيشٌ او سلاح، فهي مقاومة للنموذج الصهيوني وليست من أجل أرض محتلة أو ترسيم حدود. فالسلاح يقابله سلاح والدمار يقابله دمار، أما ما يمثله لبنان للغرب والعرب معاً، فهو الرسالة، أي الكلمة، وهي الباقية.
أيقنت اسرائيل أن التخلص من لبنان لا يكون إلا بزواله، ومن اجل ذلك استغلّت تطور الظروف الدولية والعربية، وعملت، بهدف تفكيك الوحدة الوطنية، على تأجيج الخلافات الداخلية اللبنانية- الفلسطينية اولاً، والاسلامية – المسيحية ثانياً، استباقاً لتسويق وطرح مشاريع هدّامة على المجتمع الدولي، كتوطين الفلسطينيين أو التقسيم وصولاً الى ترحيل المسيحيين.
كادت اسرائيل ان تنجح بمخططاتها، انما الإرادة اللبنانية، وبمساعدة دولية وعربية، جعلت اللبنانيين يعودون في الطائف الى رشدهم، الى حضن الدولة الواحدة، لينعموا بمقدراتها واستقرارها.
خسرت اسرائيل معركة زوال لبنان كما خسرت، بإبقاء احتلالها للجنوب، وهمَ انقسام اللبنانيين حول مقاومة هذا الإحتلال وتحرير الأرض.
لكن خلط الأوراق في المنطقة وانقسامها الى معسكرين، فتح نافذة لإسرائيل كي تعود لتعمل على تحقيق اهدافها.
هذا كان رهان اسرائيل. أما نحن، فماذا فعلنا؟
وقع لبنان في المحظور: إختلفنا على دور لبنان السياسي وشرذمنا وحدة الموقف والمصير، فمنّا من كان مع خط الممانعة ومنّا من كان ضدّه. وبالتالي اسقطنا “لبنان الرسالة”. ومن اجل دعم كل فريق لموقفه، أقمنا كانتونات مذهبية، فمزّقنا مجتمعنا. جعلنا المصالح الشخصية تتحكّم بمؤسساتنا وقدراتها، فهدمنا الدولة. انفقنا دون حساب، وعمّمنا الفساد، فأنهكنا المالية العامة. أسأنا الى علاقاتنا العربية، تراجع دورنا الانمائي، وطار اقتصادنا.
جعلنا من “لبنان الغنى والبحبوحة، “لبنان الفقر والتسوّل”، ومن “لبنان الحضارة والجامعة والمستشفى”، “لبنان التائه بلا دور أو وجود”، فسقطت “سويسرا الشرق”.
وهل نتفاجأ بعد كل ذلك، اذا سمعنا أصدقاءنا يتخوّفون على لبنان من زواله؟
لقد أسأنا الى أنفسنا أكثر مما أساء العدو الينا، فكان له ما أراد.
أما بعد، هل نحن محكومون بالزوال، ام نحن قادرون على ان نبعث لبنان من تحت الرماد لنعيده الى رسالته، وطن العيش الواحد ، وطن الحضارة والثقافة، الذي يتغنى به العالم؟
نعم نحن قادرون على ذلك، إلا انه علينا اولاً في السياسة ان نصون وحدة الخيار والمصير، فنعمل على ابعاد لبنان عن المحاور المتصارعة كي لا يكون اداة لهذا المشروع او ذاك فنرهنه وندمره من اجل الآخرين، وان نجعل من علاقاته الجيدة مع كافة الدول العربية، ومن حياده الإيجابي، مداميك أساسية تمكنه من تأمين الإستقرار والازدهار لأبنائه ، فيشكّل قوة الى جانب اخوانه العرب، عند توافقهم على مواجهة اي خطر داهم.
كما علينا في الأمن أن نعمل على توحيد كافة قدراتنا الامنية والعسكرية في اطار استراتيجية دفاعية ينفذها الجيش اللبناني عند تعرضنا لهجوم
عدائي.
أما في تنظيم الدولة، فوجب أن نعود الى روحية اتفاق الطائف ونصوصه لتطبيقه، ونؤمن بلبنان دولةً لجميع أبنائه بالتساوي، حيث لا فضل لمواطن على آخر إلا بمقدار ما هو قادر على أن يقدم لوطنه، فنجتهد لازالة الكانتونات الطائفية من مجتمعنا بالعمل على تكوين قوى سياسية وطنية عابرة للطوائف تعمل على تمثيل اللبنانيين بتعدديتهم، فتتماهى مع ارادة جمهور ثورة ١٧ تشرين.
كما علينا ان نؤكد على نظامنا الديموقراطي، فنضع قانون انتخاب يحمي الناخب من العصبية المذهبية ومن عامل المال والسلاح، فينتج ممثلين للشعب غير مرتهنين.
كما علينا تحصين مؤسسات الدولة، فلا ندعها تتأثر بالمصالح الشخصية والفساد، فنجعل الحق والقانون يسودان، لتؤمِّن للمواطن حقه.
ومن اجل ذلك كله، علينا ان نحصّن القضاء بالتأكيد على استقلاليته.
هكذا، نعيد للبنان دوره على الخريطة الدولية والاقليمية، ونحافظ على وظيفته ورسالته، وإلا نكون شركاء من حيث لا ندري مع من يريد الاطاحة بلبنان، دوراً ورسالة، في زمنٍ تنجح فيه اسرائيل بتطبيع علاقاتها مع العالم العربي.